«ما الذي يتبادر الى الذهن اولاً عندما تذكر العين؟ اهي الرؤية بنعمها وصفاتها ومواصفاتها ووظائفها وما ينتج عن ذلك كله من خير وشر؟! اما الجمال الخاص، والعام بمقاييسه ومقوماته وقيمه، وما تضيفه البصرة الى البصر وما يحمله البصر من البصيرة،
عندما تكون العين لسان القلب ونافذة الروح او منفذاً لها، تحمل مكنون القلب الذي يطفر مع اشعتها ويستشف بواسطتها ما فيه، وتسل ما في النفس ان خيراً وان شراً، ان ضعفاً وان قوة؟! وما الذي في هذه الحاسة مما يبقى بحكم فيزياء الجسد وما الذي يصبح منها جزءاً من كيمياء الروح لا يتحكم به الجسد؟!
بهذه الكلمات قدم الدكتور علي عقلة عرسان كتاب «العيون في الشعر العربي» لمحمد جميل حطاب.
يستهل الكاتب كتابه موضحاً السبب الذي دفعه الى كتابة هذا البحث والغوص في كنوز التراث العربي على فرائد من الادب الخالص في وصف العيون وافعالها وتأثيراتها وايحاءاتها بقوله: «ان العين مرآة النفس ومفتاح شخصية الانسان ومعانيه المختلفة فيها يتجلى الحب والبغض والعداوة والصداقة.. العين اداة البصر وارقى الحواس الخمس.. وهي اجمل قطعة فنية وصفها الله في خلقه وجعلها فتنة للناس.. (وزوجناهم بحور عين).
ويتعمق الكاتب محمد جميل الحطاب اكثر في اهمية العين وثقافتها موضحاً ان للعيون لغة خاصة من يفهمها يدرك علماً كثيراً في وقت قصير، ويفتح عينيه على آفاق جديدة من ثقافة العين وتربيتها.. هذه اللغة تولد ثقافة بصرية ممتعة يمكن تعليمها للأطفال في سن مبكرة لأن هذا من شأنه ان يولد لديهم الاحساس بالجمال.. الطفل يجلس في حضن الام ساعات وهي تحنو عليه بدفئها وحنانها تبادله النظرة والابتسامة من هنا تبدأ تربية العيون فتعطي صاحبها ثروة من الحب والجمال.. ويقول: وقد فطن الشعراء الى ما تقره العيون من العلاقات الاجتماعية حين قال احدهم:
والعين تعرف من عيني محدثها
ان كان من حزبها او من اعاديها
ومن اقوال الشعراء في ذلك ان ابراهيم بن المهدي سمع جارية تغني فقال:
اشرت اليها هل عرفت مودتي
فردت بطرف العين اني على العهد
اليس عجيباً ان بيتاً يضمني
واياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى اعين يشكو الهوى بجفونها
وتقطيع انفاس على النار تضرم
اشارة افواه وغمز حواجب
وتكسير اجفان وكف يسلم
ويرى ابن حزم الاندلسي ان جوهر العين ارفع الحواجب واعلاها مكاناً موضحاً ان العين تنوب عن الرسول ويدرك بها المراد فالحواس الاربع ابواب الى القلب ومنافذ نحو النفس.. الذوق واللمس لا يدركان الا بالمجاورة، والسمع والشم لا يدركان الا من قريب.. لذا فالعين ابلغها دلالة وافواها عملاً فيقول: سأبعد عن دواعي الحب اني
رأيت الحزم من صفة الرشيد
رأيت الحب اوله التصدي
بعينك في ازاهير الخدود
ولأبي علي بصير قوله في النظر والحب الصامت:
ألمت بنا يوم الرحيل اختلاسة
فأضرم نيران الهوى النظر الخلس
فخاطبها صمتي بما انا مضمر
وانبست حتى ليس يسمع لي حس
اما العباس بن الاحنف باعث العذرية الاموية في عصر بني العباس فيتساءل كيف يخفي سره اذا غض طرفه عن النظر الى وجه الحبيبة؟ مادامت الدموع تجري فتبوح بالسرائر:
هبوني اغض اذا ما بدت
واملك طرفي فلا أنظر
فكيف استتاري اذا ما الدموع
نطقن فبحن بما اضمر
يقول الكاتب في بدء الفصل الثالث: «من العسير على الانسان مهما اوتي من عذوبة اللفظ، وروعة البيان، وقوة البلاغة ان يصف بكلمات محدودة جمالاً صنعه الخالق، وان يعبر بقلمه القاصر عن معان ساخرة رسمتها يد القدر على لحاظ العيون».. هنا يحاول الكاتب رصد اوصاف العيون الجميلة (الفتور، العيون الكحيلة الساحرة، العين الحوراء، العين الزرقاء، العين الخضراء). وهو الفصل الذي سنتحدث عنه بشيء من التفصيل.
الفتور
من اوصاف العين المستحسنة «الفتور» وهو ما يرمز الى انكسار النظر وذبوله في اصل الخلقة تبدو فيه العين كأنها ناعسة مريضة وليس بها مرض.. فالجمال في هذا النوع من العيون يكمن في غض البصر وسحر اللحاظ، وهو في عين المرأة اسبال لطيف بجفنيها يعني نوعاً من الدلال والغنج يضفي على عينيها جمالاً فوق جمال.. هذا الذبول والفتور يستحسنه ابو نواس بقوله:
لولا فتور في كلامك يشتهي
وترفقي بك بعد واستملاحي
وتكسر في مقلتيك هو الذي
عطف الفؤاد عليك بعد جماح
وشبهه ابن المعتز بالنرجس حينما قال:
وسنان قد طرق النعاس جفونه
فحكى بمقلته ذبول النرجس
وتكرر في ابياته لفظة الضعيف:
قد صاد قلبي قمر
يسحر منه النظر
ضعيفة اجفانه
والقلب منه حجر
كأنما الحاظه
من فعله تعتذر
وهو الذي يقول:
فيجرح احشائى بعين مريضة
كما لان متن السيف والحد قاطع
اما ابن الرومي فيعرف الفتور في العينين بأنه فتور غنج لا فتور نعاس بقوله: يسبي العقول بمقلة مكحولة
بفتور غنج لا فتور نعاس
ويشير احمد شوقي الى ما فعلته العيون الفاترات بالحاظها المريضة في القلوب الصحيحة بقوله:
اداري العيون الفاترات السواجيا
واشكو اليها كيد انسانها ليا
قتلن ومنين القتيل بالسن
من السحر يبدلن المنايا امانيا
وكلمن بالالحاظ مرض كليلة
فكانت صحاحاً في القلوب مواضيا
وبين المتنبي من قبله ان هذه المرأة التي نظرت اليه قتلته بنظرها وليس تدري انها باءت بإثم قتله وان دمه في عنقها بقوله:
ان التي سفكت دمي بجفونها
لم تدر ان دمي الذي تتقلد
ابرحت ايا مرض الجفون بممرض
مرض الطبيب له وعيد العود
ويضيف الكاتب: في العصور اللاحقة بدأ الذوق العربي الاصيل ينكر التكحل لتجميل العيون، ويفتتن بالعين الكحلاء الطبيعية البعيدة عن الجمال المصطنع. البوصيري احد الشعراء الذين انكروا التكحل لتجميل العيون يقول.
قل للذين تكلفوا زي التقى
وتخيروا للدرس الف مجلد
لا تحسبوا كحل الجفون بزينة
ان المها لم تكتحل بالاثمد
فالعين الساحرة تفتن الرجال، فلا ينجو من شراكها انسان ـ يخضع له الملكوك والحكام وتؤثر على ميزان العدل والقضاء.. يقول المستعين بالله:
عجباً يهاب الليث حد سناني
واهاب سحر فواتر الاجفان
يقول الكاتب: لذلك اوضح الاسلام العلاقة المباشرة بين الجنس ونظرات العيون «فأمر الرجال والنساء بغض البصر».
العيون الحوراء
وفيما يتعلق بالعين الحوراء وهي العيون الدعج العربية الأصيلة التي تتصف بشدة السواد واتساعه مع سعة المقلة وقد حاول ابو حرزة جرير ان يوحي بسحرها حينما قال:
ان العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وقد وضع العرب لهذه العين كياناً جمالياً متعدد المعاني والصفات اتخذوه مقياساً للجمال فقالوا: «زجاء وطفاء، كحلاء دعجاء، حوراء، عيناء».
الزجج: دقة وطول الحاجبين، الوطف: غزارة الاهداب مع طول.
العين الكحلاء: العين التي تبدو وكأن الكحل فيها وهي من غير تكحل.
الحور: شدة بياض المقلة مع شدة سوادها، الدعج: شدة سواد الحدقة في ذلك يقول خالد بن صفوان:
كحلاء في دعج عيناء في برج
نجلاء في زجج تسلو وتقلاني
ويقول العرب في اوصاف العيون وملحقاتها:
ظمياء العيون: رقيقة الجفون، عين سجراء: وهي ان يخالط بياضها حمرة، عين شكلاء: شق العين طويل، عين سبلا: العين الطويلة الهدب، عين شهلاء: حمرة في سوادها، البلج: نقاوة وتباعد ما بين الحاجبين.
قال المسدود:
يا حوراء العين والدعج
واحمرار الخد في الضرج
وبتفاح الخدود وما
ضم من مسك ومن ارج
كن رقيق القلب انك من
قتل من يهواك من حرج
العيون الزرقاء
يشير الكاتب الى ان العرب عرف هذا اللون في عيون الجواري منذ عهد الجاهلية عن طريق قوافل التجار التي كانت تحمل الرقيق من بلاد فارس وغيرها كما عرف العرب القدامى اللون الازرق في عيون الغزاة الروم.. لذلك كره العرب اللون الازرق واتهموا اصحاب العيون الزرق بالكذب واللؤم والشر.. فيقال في العدو «هو ازرق العين» وان لم تكن عينه زرقاء.. يقول ابن الرومي:
ازير من مشؤوم، احيمر قاشر
لأصحابه نحس على القوم ثاقب
ويقول ذو الرمة في ذم العيون الزرق:
زرق العيون اذا جاورتهم سرقوا
ما يسرق العبد او نابأتهم كذبوا
وهجا بشار بن برد العباس بن محمد العباسي اخا الخليفة ابا جعفر المنصور بقوله:
وللبخيل على امواله علل
زرق العيون عليها اوجه سود
ومنذ الفتوحات الاسلامية تغيرت نظرة العرب الى هذا اللون وبدأ العشراء يتغزلون بالجميلات من روميات وفارسيات لحسن قوامهن وبياض بشرتهم وازرقاق عيونهن. فقال عمر ابن ابي ربيعة:
سحرتني الزرقاء من مارون
انما السحر عند زرق العيون
اما في العشر الحديث فنرى حضور العيون الزرق اصبح واضحاً تزخر به روائع شعر الغزل الحديث.. يقول امين نخلة في العيون الزرق:
غمس الريشة في البحر الذي
صور العيني كاللج الرقيق
فتح الماضي لعيني كوة
فأطلي اعذب الحب العتيق اما العيون الزرقاء التي تحاكي بزرقتها لون السماء والبحر يقول الشاعر بدوي الجبل:
في مقلتيك سماوات يهدهدها
من اشقر النور اصفاه واحلاه
اطل خلف الجفون الوطف موطنه
بعد الفراق فحياه وفداه
ويشير الكاتب الى ان الادباء في العصر الحديث اخذوا ينظرون الى اللون على اساس انه قيمة تعبيرية بمعنى العمل ومحتواه، وبتجربة صاحبه الوجدانية.. فالازرق يشير الى الهدوء والسكينة والامتداد العام الذي لا يعرف الحدود.. يقول الدكتور ابراهيم ناجي:
ازرق العين هادئ هدأة الب
ـحر بعيد الرضى بعيد القرار
اما اللونان الابيض والاسود فقد اكثر من استعمالهما الشعراء وقابلوا بينهما باستمرار، فالابيض يرمز الى الصفاء والغبطة والنقاء والعفاف والسلم، والاسود عكس ذلك يوحي بالحزن والخطيئة والظلام، والاخضر عنوان، انبثاق الحياة والصحة ويرمز الى الكون والطبيعة والربيع والشباب.
العين الخضراء
بالنظرة السابقة الى الالوان نلاحظ ان العين اصبحت في نظر الشعراء عالماً كبيراً بالوانه المختلفة تنسكب فيه زرقة السماء والبحر او خضرة المروج والكروم ويذوب فيه سواد الليل كحلاً يناجيه القمر والنجوم وتكمن وراءه الغوامض والاسرار، ويصف بدر شاكر السياب العيون الخضراء بقوله:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
او شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الاضواء كالاقمار في نهر
ويقصد الشاعر ان العين ذات مدى زيتي، بحيرة خضراء، عريشة كسلى تختصر الطبيعة وتحتويها عطاء ومشاوير، وصيفاً خيراً خصب المواسم.
وبريق هذه العيون يخطف انتباه الشاعر نزار قباني الى ما فيهما من انفتاحات على آفاق مديدة ويقول:
المساء شلال فيروز ثري
وبعينيك الوف الصور
وانا متنقل بينهما ضوء
عينيك وضوء القمر
ويصفها الشاعر راشد حسين في قصيدته «القدس في عينين»: لون عينيك نخيل
لون عينيك دوال
لون عينيك كحبي القدس
غال الف غال