رَجَزٌ عِنْدَ الرَّهَج
ليسَ في العُنوان غرابَةٌ. فالرَّجَزُ هو النَّظْمُ المَعْرُوفُ الّذي يُنْظَمُ أَشْطاراً أَو أَبْيَاتاً. والرَّهَجُ هو الغبار. والمراد به هنا الغبار الذي يملأ الجوّ عند احتدام المعارك. قديماً كانت الخيلُ، وكان المُشاةُ، يثيرون ذلك الغبار. واليوم تؤدّي الآليّاتُ المختلفة مع المشاة هذه المهمّة.
وكانَ المُحاربون يرتَجِلُون ـ أو يُرَدّدون ـ أَبياتاً أو أَشطاراً منظومةً على بحر الرَّجَز في بَدْءِ المعركة أو في ساعةٍ من ساعاتِ احتدامها: إلهاباً للحماسة والشّجاعة الشخصيّة، والعامّة لقومه الذين يُحارِبُ معهم، وتثبيتاً لمن معه في المعركة الصَّعبة.
والارتجازُ (قولُ الرَّجَز) عند الحرب في تُراث العَربِ من ملامح رَفْع الروح المعنوية. كان هذا معروفاً في غزواتهم في العصر الجاهلي، واشتهر بعد ذلك في غزوات المسلمين وحروبهم، مع اختلافٍ في مُعْطيات تلك الأراجيز: مقاصدها ومغازيها، وعباراتها وأُسلوبها أيضاً.
وحفظت كتُب التاريخ والسِّيَر والمغازي وغيرها قطعاً من تلك الأَشْعار أو الأَراجيز التي قالُوها في تلك اللحظات الحرجة. ومن أحسن الشعر في هذا الباب قول عمرو بن الإطنابة :
أبتْ لي همّتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الرَّبيْحِ
وإقدامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشَيح
وقولي كلّما جشأتْ وجاشت
مكانك تُحمدي أو تستريحي
(2)
أراجيز الشّجاعة والحماسة في المعَارك تجيء قصيرة قليلة عدد الأَشطار والأَبيات، سريعة الأداء، عذبة الإيقاع، مشبوبة العاطفة، حماسيّة الرُّوح، ومن ذلك ما ارتجزه عمير بن الحُمَام الأَنصاري في غزوة بدر الكبرى.
ركْضاً إلى الله بغير زادِ
إلاّ التقى وعَملِ المَعَادِ
والصَّبر في الله على الجِهادِ
وكلُّ زادٍ عُرْضَةُ النّفادِ
غير التقى والبِرّ والرَّشادِ
ومنه وقل المُجَذّر بن زياد في بدر أيضاً :
أنا الذي يُقال أَصلي من (بَلِي)
أطْعَنُ بالصَّعدة حتى تنثني
وأَعْبِطُ القِرْن بِعَصْبٍ مشرفي
أرزم للموت كإرزمام المري
فلا يرى مجذّراً يغري فري
فهو يطعن الخصم بالرمح حتى ينثني فيه من عزم الضَّربة.
ـ ومن رجز أبي دجانة في غزوة أُحُد :
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسفح لدى النّخيلِ
ألاّ أقومَ الدهرَ في المكيولِ
أَضربْ بسيف الله والرَّسُولِ
يقول إنه يكون في مقدّمة الجيش مقاتلاً، ولا يكون في المكيول: مؤخَّر الصّفوف..
(3)
وارتجز المسلمون يوم الخندق برجلٍ ( باسم رجل ) من المسلمين يقال له جُعَيل؛ وسَمّاه رسول الله عَمْراً، فقالوا في ما يقولون :
سَمّاه من بعد جُعَيلٍ عَمْرا
وكان للبائس يوماً ظَهْرا
وكانوا إذا قالوا "عَمْرا" قال معهم رسول الله عليه الصلاة
و السلام : عَمْرا؛ وإذا قالوا " ظَهْرا " قال لهم : ظَهْرا.
ـ ولما رأى رسول الله عليه الصلاة و السلام ما كان عليه المهاجرون والأنصار من التعب قال : [ اللهمّ إن العيش عَيْشُ الآخرة فاغفرْ للأنصار والمهاجرة ] فقالوا مجيبين له :
نحنُ الذين بايعوا محمّدا
على الجهاد ما بقينا أبَدا
ـ وعن البراء بن عازب (رض) قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينقل التراب من الخندق حتى أغبرّ بطنه ويقول من رجز لعبد الله بن رواحة :
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدّقنا ولا صَلَّيْنا
فأنزلنْ سكينةً علينا
وثبّت الأقدامَ إن لاقَيْنا
إنّ الألى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنةً أَبَيْنا
ـ وكان في رجز سعد بن معاذ في هذا اليوم :
لبّث قليلاً يشهد الهيجا جَمَلْ
لا بأس بالموت إذا حان الأجلْ
(4)
والاستقصاء يطول. لكنّ هذا الشعر وهذا الرّجز كان جزءاً من الدفاع الإعلامي المرافق للدعوة والجهاد منذ تعيين حسان بن ثابت للردّ على أهاجي المشركين المقذعة. ومن الأخبار ذات الشأن هنا أن سعد بن أبي وقاص (رض) قائد معركة القادسية استدعى عدداً من الشعراء وسألهم أن ينظموا أشعارهم لتحميس المُسلمين وترغيبهم في الجهّاد.