عَنْ أَسْمَاءَ بِنْت عُمَيْسٍ - رضي الله عنها - قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِم الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ ؟ فَقَالَ: ( نَعَمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ ).
هذا الحديث رواه الترمـذي في: الطب، باب: ما جـاء في الرقية من العين (1858 ح2059) وقال: هذا حديث حسن صحيح .(1)
وللحديث شاهد عن جابر بن عبدالله –رضي الله عنه- رواه مسلم في: الطب، باب: استحباب الرقيـة من العين والنملة والحمة والنظرة (1068 ح2198) بسنده
عن جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ: (مَالِيْ أَرَى أَجْسَامَ بني أَخِيْ ضَارِعَة ، تُصِيْبُهُم الحاجَةُ ؟ ) قالت: لا، ولكنَّ العينَ تُسْرِعُ إِلَيْهم، قَالَ: (ارقيْهم ) قالت: فَعَرضْتُ عَلَيهِ، فَقَالَ: (أرقيْهِم ).
من هي أسماء بنت عميس (السائلة ) ؟
هي أَسْمَاءُ بنتُ عُمَيْس بنِ مَعَد بن الحَارِثِ أم عبدالله، وقيل أَسْماءُ بنت عُمَيْسٍ بن مَالِكٍ ابن النُّعْمان بن كَعْبِ بن مَالِك من بني خثعم، أمها: هند بنت عوف أو خولة بنت عون، وهي أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأم، وأخت لُبَابة أم الفضل زوجة العباس، وأخت جماعة من الصحابيات لأب أو أم أو لأب وأم، أسلمت وبايعت ثم هاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر ابن أبي طالب فولدت له هناك محمدًا أو عبدَالله، وعونًا، ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر الصديق، ثم مات عنها، فتزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له يحيى بن علي، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وروى عنها ابنها عبدالله بن جعفر وحفيدها القاسم بن محمد وعبدالله بن عباس وهو ابن أختها وروى عنها آخرون، توفيت بعد علي بن أبي طالب – رضي الله عنها -.(2)
غريب الحديث :
أفَأَسْتَرقي : الرُّقْيَة هي العُوْذَه والجمع رُقَى، واسْتَرقَاهُ فَرقَاهُ الرَّاقِي رُقْيَةً ورُقِيًّا، ورجلٌ رَقَّاءٌ: صاحب رُقى، قال الناظم :
فما تركا من عُوذَةٍ يَعْرفانها ولا رُقْيَةٍ الإبهــار رقَيَاني (3)
والرُّقية: العُوذَة التي يُرقى بها صاحب الآفة كالحمّى والصرع، وغير ذلك من الآفات (4).
العَيْن : حاسَّة الرؤية، وهي مؤنثة، وجمعها أَعْيُن، وعُيُون، وتصغيرها عُيينة، وتطلق العين على غير (5) ذلك، ومنه المطر الذي يتوالى أيَّامًا.
يقال: عانَهُ يَعِينه عَيْنًا فهو عائن، والمصاب: مَعْيُون، وهي : نظر باستحسان مشوب بحسد، من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر (6) .
وأصابت العين فلانًا: إذا نظر إليه عدوٌ أو حسود فأثَّرت فيه فمرض بسببها (7).
أو هي قوة سُمِّية، مؤذية، غير مرئية، تنبعث من الروح الخبيثة للعائن فتؤثر فيما أعجبه بالفساد .
وقد يكون العائن أعمى فيوصف له شيء، أو يسمعه فيعينه ويضُّره.
وأشبه الأشياء بتلك النفس؛ الأفعى، التي تقابل عدوّها فتتكيف بكيفية شرِّيرة، وينبعث منها قوة غضبية شديدة تؤثر في إسقاط الجنين وطمس البصر ونحوه (
.
من فوائد الحديث :
1/ الشعور الفطري بعطف الأمومة الدّافق يدفع الوالدة الحنون إلى تحرِّي العلاج لأبنائها، ولفت انتباه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حال أجسام صغارها الناحلة الضعيفة، وتعرض عليه احتمالاً قويًا بإصابتهم بالعين .
2/ في الحديث دليل على أن العين تسرع إلى قوم فوق إسراعها إلى آخرين وتؤثِّر فيهم بالضّرر أو الهلاك لتمام حسنهم الصوري والمعنوي (9) ونحو ذلك .
3/ إباحة الرقى للمعيون، خاصةً إذا لم يُعرف العائن (ليؤخذ غسله)، وتلك الرُقى مما يستدفع بها البلاء إذا أذن الله عز وجل بذلك وقضى بالشفاء، وأسعد الناس بها من صحبة اليقين بالله تعالى، ومن أعطي الدعاء وفتح عليه لم يكد يحرم الإجابة، قال تعالى
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (10) (11).
4/ أجمع أهل العلم على جواز الرقية الشرعية وهي؛ ما يكون بالقرآن وأسماء الله الحسنى والمعوذات والذكر الحسن والأدعية المأثورة والتضرع إلى الله سبحانه بالشفاء من شر السواحر النفاثات وشر الحاسدين، والشيطان ووسوسته ومن شر شرار الناس وشر كل ما خلق، وشر ما جمعه الليل من المكاره والطوارق (12) والمنهيُّ منها ما تضمن شركًا وتعظيمًا لغير الله سبحانه، واعتقاد تأثيرها بالنفع من دونه سبحانه .
عن عوف بن مالك – رضي الله عنه - قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: (اعرضوا عليَّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا ) (13) .
5/ المبالغة في تأثير العين وقوَّتها وتعظيم شأنها بقوله صلى الله عليه وسلم : (لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ).
وهذا الأسلوب جرى مجرى التمثيل، بمعنى: لو فرض أن لشيء قوة بحيث يسبق القدر في قوته ونفوذه لسبقته العين، لكنها لن تسبقه لأن تأثيرها بإرادة الله سبحانه، والقدر عبارة عن سابق علم الله جَلّ وعزّ، وتمام كتابته للمقادير ونفوذ مشيئته فيها قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، ولا راد لأمره ولا معقِّب لحكمه (14) .
6/ فضل التحصّن بالأذكار المشروعة والأدعية المأثورة وأثرها بتوفيق الله في وقاية العبد ورد سهام عين العائن، وكل عائن حاسد وليس العكس، فكانت الاستعاذة منه (15) .
قال تعالى: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ، وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ، وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ، وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) [سورة الفلق: 1-5] .
وعن عائشة - رضي الله عنها - : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مَضْجَعَه نفث في يده وقرأ بالمعوِّذَات ومسح بهما جسده »(16) .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يومٍ، مائة مرة، كانت له حِرْزًا من الشيطان، يومه ذلك، حتى يمسي ) (17)
الحديث مختصرًا. إلى غيرها من العُوذَ والأذكار.
قال ابن القيم - رحمه الله -: ومن التزم هذه الدعوات والعُوَذ عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة إليها، وهي تمنع حصول العين وتدفع أثرها بحسب قوة إيمان قائلها، فإنها سلاح، والسلاح بحامله (18) .
وقال الشوكاني – رحمه الله - : التداوي بالدعاء مع الالتجاء إلى الله أنجع من العلاج بالعقاقير، ونفعه يتحقق بأمرين؛ أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو توجه قلبه إلى الله وقوته بالتقوى والتوكل على الله سبحانه (19) .
7/ يستحبُّ للأم تعلُّم الأوراد الشرعية والأدعية النافعة، لتلي الرقية بها على أبنائها، في حال الصحة والمرض، والاستغناء بها عن الذّهاب إلى الرُّقاة والقرَّاء ، لكونها أرقّ قلباً لصغيرها و أصدق عاطفة و مودّة لأبنائها .
وهذا المعنى هو ما فهمناه من عرض أسماء – رضي الله عنها – ما تعرفه من الرُّقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفَّها عن سؤاله أن يرقيهم بالرَّغم من شدة الحاجة إلى ذلك لإصابتهم بالعين وبركة رقية النبي صلى الله عليه وسلم .
8/ قدّر الله سبحانه وتعالى الخير والشرّ وأسباب كل منهما، فالعين والمرض والبلاء من قدر الله سبحانه والرقى والتداوي والدعاء ونحوها من أسباب الشفاء هي بتقدير الله أيضـًًا، وهذا التقدير لا يمنع العمل ولا يُوجب الاتكال، بل يوجب الجد والحرص والاجتهاد واتخاذ الأسباب مع قوة اليقين بالله سبحانه والثقة به وهذا تمام التوكل (20) .
د. منى بنت أحمد القاسم
الأستاذ المساعد بجامعة الرياض للبنات
__________________________________________________ ___-
(1) وقال ابن عبد البر: حديث أسماء بنت عميس الخثعمية محفوظٌ من وجوهٍ ثابتة متَّصلة صحاحٍ ، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
(2) الاستيعاب (4/1784)، صفوة الصفوة (2/63)، أسد الغابة (6/14)، الإصابة (7/489).
(3) معجم مقاييس للغة (ص396)، لسان العرب (14/332)، مختار الصحاح (ص107)، مشارق الأنوار
(1/373) .
(4) النهاية في غريب الحديث (2/254) .
(5) معجم مقاييس اللغة (ص699)، مختار الصحاح (ص195)، مشارق الأنوار (2/132) .
(6) تحفة الأحوذي (6/184) .
(7) النهاية في غريب الحديث (3/332) .
(
نقلته باختصار شديد من: زاد المعاد (4/165- 66- 167) .
(9) ينظر : التمهيد (2/267- 270)، تحفة الأحوذي (6/184) .
(10) سورة غافر، الآية: 60 .
(11) ينظر: التمهيد (2/267- 270)، حاشية ابن القيم (10/277) .
(12) إكمال المعلم (7/101)، وينظر: عمدة القاري (21/265)، نيل الأوطار (9/91)، وذكر الخطابي – رحمه الله – معنى الرُّقية الصالحة والفرق بينها وبين ما سواها. أعلام الحديث (3/2131).
(13) رواه أبو داود في الطب، باب: في الرقى (1508 ح3886)، قال: حدثنا أحمد بن صالح: ثنا بن وهب أخبرني معاوية [بن صالح الحضرمي] عن عبدالرحمن بن جبير عن أبيه عن عوف بن مالك. ورجاله ثقات.
(14) ينظر: التمهيد (2/270)، الديباج (5/214)، فيض القدير (4/397)، شرح الزرقاني (4/411)، تحفة الأحوذي (6/184) .
(15) ينظر : فتح الباري (10/246) .
(16) رواه البخاري في: الدعوات، باب: التعوذ والقراءة عند المنام (532 ح6319) .
(17) رواه مسلم في: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء (1146 ح2691) .
(18) ينظر : زاد المعاد (4/170) .
(19) نيل الأوطار (9/93) .
(20) ينظر : مجموع الفتاوى (8/176- 196)، زاد المعاد (4/14)، معارج القبول (2/297)